الخيمة الأمازيغية في خنيفرة: هندسة الأجداد ورمزية "بوابة المدينة" الخالدة
في أعالي جبال الأطلس المتوسط، حيث تعانق قمم الأرز السحاب، تقف "الخيمة السوداء" (Akham Aberkan) كشاهد حي على تاريخ قبائل زيان العريقة. إنها ليست مجرد قطعة قماش تُنصب في الخلاء، بل هي مؤسسة اجتماعية، وحصن منيع، ورمز للكرم الذي لا ينضب.
وعندما تزور مدينة خنيفرة، عاصمة الزيان، ستكتشف أن الخيمة تجاوزت وظيفتها كمسكن للرعاة، لتتحول إلى أيقونة معمارية تزين مدخل المدينة وترحب بالزوار. في هذا المقال المفصل عبر موقع Khenifra.XYZ، سنغوص في عمق التراث لنكتشف أسرار صناعة الخيمة، تقسيمها الهندسي الفريد، ولماذا اختارتها المدينة لتكون واجهتها الأولى.
1. "أزطا" وفن النسيج: كيف تُصنع القلعة السوداء؟
صناعة الخيمة في خنيفرة ليست عملية تجارية، بل هي طقس احتفالي نسائي بامتياز يسمى "التويزة" (العمل الجماعي). تجتمع نساء القبيلة للعمل بجد وإتقان لإنتاج هذا الصرح، وتمر العملية بعدة مراحل دقيقة:
- المواد الأولية الذكية: تُنسج الخيمة أساساً من شعر الماعز وصوف الأغنام. لماذا شعر الماعز؟ لأنه يمتلك خاصية فيزيائية مذهلة؛ حيث تنتفخ أليافه عند نزول المطر فتسد الثقوب وتمنع تسرب الماء، وفي الصيف يتقلص ليسمح بمرور النسيم البارد.
- الفليج (الأشرطة): تقوم النساء بنسج شرائط طويلة وعريضة تسمى "الفليج". يتطلب الأمر عدة أسابيع لنسج عدد كافٍ من الفليج، ثم يتم خياطتها ببعضها البعض باستخدام إبر كبيرة وخيوط متينة جداً.
- اللون الأسود: اللون الداكن للخيمة يمتص أشعة الشمس في الشتاء ليوفر الدفء، ويمنح الظل الكثيف في الصيف، كما أنه يرمز للهيبة والوقار في الثقافة الأمازيغية.
2. الهندسة الداخلية: نظام اجتماعي تحت سقف واحد
إذا دخلت خيمة أمازيغية تقليدية في ضواحي خنيفرة، ستجد أنها مقسمة بذكاء شديد يعكس احترام الخصوصية وتنظيم الأسرة:
- أساماس (الوسط): هو القلب النابض للخيمة، وفيه يوجد الموقد (الكانون) حيث يُطهى الطعام وتجتمع العائلة للتدفئة.
- الجانب الأيمن (مجلس الضيوف): يخصص عادة لاستقبال الرجال والضيوف، ويفرش بأجمل الزرابي الزيانية الحمراء والوسائد الصوفية.
- الجانب الأيسر (الخزين): مكان مخصص للنساء ولتخزين المؤونة، الحليب، وأدوات النسيج.
3. من الجبل إلى المدينة: قصة "بوابة خنيفرة" (الصورة)
لعل أبرز ما يشد انتباه الزائر عند وصوله إلى خنيفرة هو مدخل المدينة (Bab Al Madina).
لقد أبدع المهندسون في تصميم هذا المدخل، حيث تخلوا عن شكل الأقواس التقليدية الموجودة في المدن العتيقة (مثل فاس ومراكش)، واختاروا بدلاً من ذلك شكل "الخيمة المثلثة" المفتوحة.
ما هي دلالة هذا التصميم؟
- الترحاب الدائم: شكل الخيمة المفتوحة يعني أن المدينة تفتح ذراعيها للجميع دون أبواب موصدة.
- الاعتزاز بالهوية: هو اعتراف رسمي بأن ثقافة الرحل والجبل هي الأصل والجذور لهذه المنطقة.
- الحماية: السقف المائل يرمز إلى الاحتواء والحماية التي توفرها المدينة لساكنيها وزوارها، تماماً كما تحمي الخيمة ساكنيها من ثلوج الأطلس.
4. الخيمة والتاريخ: ساحة أجدير التاريخية
لا يمكن الحديث عن الخيمة في خنيفرة دون ذكر منطقة أجدير (Ajdir Izayane). في هذه الهضبة الفسيحة، كانت تُنصب آلاف الخيام إبان فترة المقاومة بقيادة موحا أوحمو الزياني. كانت الخيمة هي مركز القيادة، والمستشفى الميداني، ومكان التخطيط لمعركة الهري الخالدة.
اليوم، تتحول أجدير وشلالات خنيفرة إلى مزارات سياحية تُنصب فيها الخيام لاستقبال السياح الراغبين في عيش تجربة "حياة البدو" لبضعة أيام.
